تخطى إلى المحتوى

باريا لجوزيبى تورناتوري

“فسيفساء سبعة عقود في بلد السباكيتي والزلازل”

العلاقة بين العائلة والمجتمع موضوع نال الاهتمام به سينمائيا منذ بدايات الفن السينمائي ولحد يومنا الحاضر، وخاصة السينما الايطالية التي تعددت مدارسها ورؤاها، وطعمت خطابها بمواقف سياسية واجتماعية نقدية، وهو الامر الذي اكسبها على الدوام طعما ولونا خاصين لنجد انفسنا كمشاهدين ونقاد، وبالذات في السنوات الاخيرة ، ازاء إضافات جديدة تتمثل في مجموعات من الافلام الجديدة بدأت حقا في انعاش السينما الايطالية، لتسير على نهج الواقعية الايطالية الجديدة التي انطلقت في بداية الاربعينات من القرن الماضي .

اصبحت الحرية مطلبا مطروحا في كل الميادين، حرية الكلام المتجسدة في وسائل الاعلام المتنوعة، حرية كل اشكال التعبير والممارسة، الحرية العائلية التي فرضتها الحركات السياسية واحزابها في هذا البلد الذي لااحد يستطيع انكار الطابع العنيف والمتميز الذي يرتديه الصراع الاجتماعي والسياسي المحتدم في بلد السباكيتي والزلازل. ففي المجتمع الايطالي بسطت فيه الاحزاب السياسية الآتي والمؤقت سلطانها على كل شيء، كان من الطبيعي ان تزحف بعض وجوه التمزق في كيان العائلة كبنية تقليدية في مواجهة ازمة انفعالات وتحولات وعلاقات وازمة هوية، في بلد لازال ومنذ سقوط الفاشية في منتصف اربعينات القرن الماضي ولحد الآن، يعيش ازمات محتدمة، حيث القديم يتفسخ ويتحلل ومعه، جنبا الى جنب، تبدو تراكم نذر الجديد العاصف. وكان من البديهي ان تحتل مساحة الحياة العميقة نماذج عائلية كانت لسنوات خلت ضربا من الخيال.

فيلم ( باريّا) للمخرج الايطالي البارز جوزويبى تورناتورى ، الذي نال الاوسكار عن فيلمه الرائع” السينما الجنة” عام………. تم تصوير اغلب مشاهده في تونس، بعد ان أمر المخرج بناء قرية صغيرة من الكارتون والجص في احدى الضواحي القريبة من العاصمة على مساحة خصصتها الحكومة التونسية تقدر بستة هكتارات من الارض الجرداء، لتكون شبيه بتلك البلدة التي عاش فيها جوزيبى تورناتورى. شارك في عملية البناء هذ البلدة، اضافة الى مجموعة من العمال التونسيين، خيرة المعماريين والشنوغرافيين الايطاليين .الفيلم بحق هو” كولوسال” او كما اطلق عليه العديد من نقاد السينما الايطاليين ” فيسفساء” شارك بوضع احجارها الصغيرة 203 ممثل وممثلة و230 تقني و20 الف من الكومبارس، وانتجته شركة ” ميدوزا” المملوكة لرئيس وزراء ايطاليا سليفيو بيرلوسكوني، واشرف على عملية الانتاج التونسي طارق بن عمار. الفيلم يمثل رحلة بيوغرافية حقيقية لحياة المخرج في مسقط رأسه ، وهي مدينتة ” باريّا” التي تقع في قلب جزيرة صقلية، حيث تمتد هذه الرحلة لاكثر من ستة عقود ، وبالتحديد منذ بدايات القرن السابق وحتى السبعينات منه ، لتعكس صورة هذه البلاد التي كانت لاتزال حتى عام 1957 يعمل سكانها في الزراعة أكثر مما في الصناعة، لكنها في مطلع السبعينات من القرن الماضي ، بعد ان غادر اكثر من 3 ملايين فلاح ارضه في الجنوب البائس ملتحقا بالمصانع وقطاع الخدمات التجارية في المدن الشمالية، فان الزراعة لم تعد في ظل سياسة الافقار الرأسمالية لتستبقي غير خمس السكان. ثم ادارت الحكومات التي كان يقودها حزب الديمقراطي المسيحي على مدى 45 عاما ظهرها للجنوب الفقير ومعه جزيرة صقلية التي كان يطلق عليها الرومان القدماء بـ” سرة العالم” ، لتغرق ايطاليا في هموم دورة الارباح الرأسمالية الطاحنة، فاستكمل الجنوب وبالذات صقلية بؤسه واغرقته فياضانات البؤس والتناحر. ثم خلعت الازمات الاقتصادية التي ما برحت تتسارع بوتائر مريعة، اخر مظاهر الزيف الحضاري والتقدم الرأسمالي المزعوم، عن وجه حكومات اليمين الديني الحاكم، فظهرت ايطاليا كما صورها هذا المخرج القدير محشورة في شوارع السردين المعلب، كما هي في الواقع، بلا رتوش ولا مساحيق تجميل، بلا زيادة ولا نقصان. بلد يعكس مخاض عنيف يتصارع فيه اقدم ما في اوربا واحدثه، بلد تشق الطبقات المسحوقة فيه، طريقها نحو كرامة العيش، في سباحة شاقة مزدوجة، ضد اليمين والتخلف وعصابات المافيا ومظاهر القديم البالي من جهة، وضد مظاهر التقدم والمدنية ” الزائفة”.

ما طرأ على العائلة الايطالية في الجنوب خلال المراحل التاريخية التي استعرضها الفيلم، من تغيرات سحبتها العواصف السياسية، ومعارك الحزبين الكبيرين وهما الشيوعي الذي لعب دور كبير في ترسيخ القيم الديمقراطية والحفاظ عليها، ومساهمته الاساسية في دك اركان النظام الفاشي والتصدي المستمر لعصابات المافيا ، وبين الحزب الديمقراطي المسيحي الذي حكم البلاد نحو خمسين عاما انتهت في مطلع التسعينات من القرن الماضي بفضائح فككت هذا الكيان الى اكثر من اربعين حزبا وتجمعا .

تناول الفيلم فترة نهوض الفاشية ومن ثم انكساراتها وسقوطها، وانبثاق النظام الجمهوري، وتركت هذه الاحداث المتسارعة آثارا سلبية، على مضمون واهداف العائلة الجنوبية ، تحكمت هذه الاحداث والمتغيرات، في بنيتها وهي التي تحمل ارث كبير من القيم الاخلاقية والدينية والمصالح الاقتصادية اختزنها وعي الناس فغدت معطى ثقافيا واجتماعيا لايقبل النقاش. الفيلم خليط لتلك المحبات العاصفة والصراعات الدامية والخيانات الحزبية والعائلية، اضافة الى الانتقامات الدموية المريرة، عكست نفسها على ثلاثة اجيال متتالية. كما ان الذي وضع موسيقاه التصويرية، صاحب الاوسكارات الشهير ” اينيو موريكوني ” وشارك في التمثيل مجموعة كبيرة من الممثلين وعلى رأسهم فرانشيسكو شانا ولويجي لوكاشو ومونيكا بولوتشي وباولو بوفا والممثل والمخرج …..، هو كما قال عنه مخرجه نفسه” اسطورة مزدحمة بالابطال في مدينة تدور فيها حيوات السكان على طول الشارع الرئيسي في المدينة، وعلى الرغم من ان طول ذلك الشارع لايزيد عن بضع مئات من الامتار، فان المرء لو اتيحت له الفرصة بالمرور فيه جيئة وذهابا لسنين طويلة، فان بامكانه ان يتعلم ما ليس في امكان العالم باسره تعليمه اياه”.

فيلم ” باريّا” تلك البلدة الصغيرة القابعة في عمق جزيرة صقلية والتي ولد فيها هذا المخرج السينمائي ، وترعرع في عمق مآسيها وآمالها واحلامها الكبرى ، يروي في هذه الملحمة الاسرية السينمائية ، العلاقة داخل بناء العائلة الايطالية، التي تعتبر الاكثر تماسكا بين اخواتها الاوربيات باعتبارها مكان الهوية الاجتماعية وملجأ الانسان اينما كان. وهو موضوع ظلت السينما الايطالية متميزة باستلهامه منذ بداياتها الاولى وحتى السنوات الاخيرة . فهو يعيد الى الاذهان فيلم “التسعمائة” للمخرج الكبير بيرتولوتشي الذي ………………..ومن بعده فيلم ” الافضل شبابا” للمخرج ماركو توليو جوردانا، الذي يروي اربعين عاما من تاريخ ايطاليا، منذ منتصف الستينات من القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، ليشكل قراءة في منتهى الجمال لمشروع ممتد بعيدا في السياق الزمني تمثله علاقات وذاكرة الناس في هذا البلد يغتني بالمضامين الصغيرة والكبيرة التي شكلت احداثا كبيرة في حياة ايطاليا المعاصرة.

يبدا الفيلم بمشهد طفل يلعب بالمصرع الخشبي مع اصحابه في احدى الشوارع الترابية، حين يهم احد الاشخاص الجالسين بصحبة رجال ضيعته في المقهى الشعبي، وسط الشارع الرئيسي الترابي لـ” باريا ” ، يطلب منه شراء علبة سجائر، ويلح عليه بان يستعجل بالمجيء قبل ان تجف بصقته التي اطلقها بحماقة وتحدي على الارض، فيسرع الطفل مهرولا بعد ان تردد امام هذا التحدي، ومن ثم طائرا لجلب ما طلبه هذا الرجل، ويتزامن هذا الطلب مع عقاب معلمة المدرسة لطفل آخر في الصف الابتدائي في زمن الفاشية والذي تشير اليه الصورة الكبيرة للزعيم بنيتو موسوليني معلقة في قاعة الصف المدرسي، هو أب جوزيبى ترناتورى ليركن في احدى زوايا الصف المظلمة وينام حين يخرج جميع من في المدرسة ليشكل حلمه الطويل احداث الفيلم التي تمتد نحو ثلاث ساعات، يفيق بعدها ليهرول الى البيت بعد ان يرى حجم التغيير الكبير الذي اصاب مدينته البائسة الصغيرة وفي طريقه الى بيته يتصادم مع الطفل الاخر الذي يعود وفي جيبه علبة السجائر ليسلمها للرجل وهو ينظر الى البصقة التي تركها هذا الرجل على الارض ان كانت قد جفت ام لا.

في عمق هذه اللوحة الفسيفسائية السينمائية التي آلت اليها صورة العائلة الايطالية، يبقى هناك فارق يظّلل المكان ويعطيه زمنيا ومكانيا وانسانيا، هو ما لعبه الشيوعيون الايطاليون في صقلية……… وايضا في تركيبة العائلة الفقيرة كشريك يختلف عن اي شراكة اخرى، باعتبارها المشروع الممتد بعيدا في السياق الزمني، يغتني بالمضامين وتفترض نتائجه دون ان يفقد ضبابيته، انه مشروع تواطؤ بين اثنين، الحزب والعائلة يجمعان لمغالبة اي فعل سلبي يأتي من الفاشية او عصابات الاجرام المنظم التي تمثلها المافيا، او من حزب الديمقراطية المسيحية، العدو اللدود للشيوعية الالحادية..

بهذا المعنى تصبح حياة العائلة الايطالية بمثابة خلية اجتماعية، وهي ضرورة تفرضها القيم والاخلاق ويحضنها الدين، بمثابة مشروع للحياة، يحمل قيم الحرية والمساواة والعمل وحقوق الانسان وملامح افرادها تنطق بأمل كبير في ان تتحق شعارات الحزب، حيث يظل الاب المناضل مشدود طيلة حياته مأساوية والم وانكسار مشدودا الى المستقبل وهو يرى طيلة ثلاثة عقود من الزمن ان يرى ببصيرة انتمائه الى الفئات المسحوقة، زحف رياح التغيير المتعددة الاتجاهات على “قلعة” الفاشية اولا ومن بعدها الديمقراطية المسيحية التي نخرتها عوامل التعرية والتآكل، وجعلتها عرضة للسقوط، تدس رأسها في الرمال امام بؤس الجنوب وابنائه.

محمود عبد الباقي – صحيفة الجديدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

-+=