تخطى إلى المحتوى

وما أدراك ما (فيلليني)…

لكل مجال من مجالات الحياة أعلامه ورواده، وفي مجال السينما يوجد لدينا بعضاً ممن أسهموا في تطوير الفن السينمائي وابهار أجيال من محبي هذا الفن الراقي. ويأتي المبدع العظيم (فيديريكو فيلليني) في مقدمة من جاءوا بفكر مختلف، تمرد على القوالب الجامدة وفتح آفاقاً جديدة لم يكن ليدركها العقل والخيال البشري دون اسهاماته.

وهذا المبدع والفنان والفيلسوف من النوعية التي تأتي ولا تتكرر. بل يستحيل أن تتكرر لأن ابداعه جاء من وحي خبرات حياتيه خاصة جداً وارتباط عضوي ومحوري بالمكان الذي شهد ميلاده وطفولته وسنوات التشكيل الفكري والوجداني. ويتضح هذا كثيرا في أفلامه الذاتية الطابع والتي رغم خصوصيتها الشديدة وذاتيتها المفرطة استقبلت بترحاب وانبهار يشبه انبهار الطفل بالساحر في السيرك.


وحين يعترف عمالقة من الوزن الثقيل بتأثير (فيلليني) عليهم ويذكرون أنه كان مصدر الهام لهم، فإننا نقترب أكثر وأكثر من تصور قيمة هذا الفنان، ولك أن تتصور أن من بين هؤلاء: (وودي آلان) و (ستانلي كوبريك) و (مارتن سكورسيزي) و (ديفيد لينش) و (تيم بيرتون) و (إمير كوستوريتشا) و (بيدرو ألمودوفار).
أحب (فيلليني)، بلده “إيطاليا” ورفض بصورة قاطعة أن يخرج منها إلى “هوليوود” التي لا تتردد في استقطاب أي مبدع كبير إلى عالمها. رفض (فيلليني) أن يدخل رئتيه هواء آخر، كان يعرف دون أي شك أن مساحة الابداع التي ستتاح له ستكون اقل وهو بالاساس ليس لابداعه حدود وليس لخياله سقف. ولك أن تتخيل أن هذا الرائع الذي لم يدرس الفن السينمائي، كان أحيانا يغير في سيناريوهات ومشاهد أفلامه في بلاتوه التصوير، أي أن بعض أفلامه جاءت كلوحات ارتجالية، وبقدر من الغرابة وقليل من الواقعية وبكثير من الابداع عاش الفنان العملاق “أسطورته الشخصية”، على حد تعبير ساحر الصحراء (باولو كويلو) في رائعته “الخيميائي”.

بداية متعثرة ونور في نهاية الأفق: لم تكن بدايات (فيلليني) تبشر بمثل هذا النجاح الأسطوري وإن كان تبشر بشيء مختلف، واعد ومتفجر بالحيوية. دون الدخول في تفاصيل سيرته الذاتية التي يمكن للجميع قراءتها من مصادر أخرى، أتوقف عند نقطة أن (فيلليني) كان أروع مثال للفنان الشامل، فقد امتهن التمثيل في أفلام قليلة واشترك في كتابة سيناريوهات العديد من الأفلام، وهو كاتب قصة قصيرة وكاتب للمقالات ومقدم برامج اذاعية ورسام كاريكاتور، كما أنه كان يرسم مشاهد أفلامه المثيرة للجدل بنفسه بكل ما فيها من تصورات للمجاميع والازياء والديكورات وغيرها.
كانت له تجارب مبكرة في الاقتباس للسينما، لكن علاقته بالمخرج الكبير (روبرتو روسيليني) كانت بابه لدخول عالم السينما الواسع، فأشركه ممثلا بالاضافة لاشتراكه في كتابة سيناريو فيلم ” 1945 – Roma, città aperta ” وتعاون معه (فيلليني) في سيناريو عدة أفلام من أهمها ” 1946 – Paisà ” . في هذه الفترة كانت “الواقعية الايطالية الجديدة” تفرض نفسها كمدرسة سينمائية تلمس جراح المجتمع، وتحديداً قاع المجتمع. نماذج حياتيه مألوفة وتمتزج معالجاتها الفكرية بذكريات الحرب التي كانت السبب الرئيسي لمعاناتهم. أخرج (فيلليني) أول أفلامه ” 1950 – Luci del varietà ” بالاشتراك مع (ألبرتو لاتوادا) ولم يلقى النجاح المنتظر وكان كارثة مالية ظل (فيلليني) و (لاتوادا) يعانيان منها لعشر سنوات. أخرج بعد ذلك فيلمين قبل أن يلقى النجاح الرائع مع فيلم ” 1954 – La Strada ” حيث دوت شهرته الآفاق مع فوزه بجائزة الأوسكار ومع الاستحسان الكبير من جمهور السينما له وكان ولا يزال من أجمل الكلاسيكيات في تاريخ السينما. ثم اتبع ذلك بفيلمه الرائع ” Le Notti di Cabiria – 1957 ” الذي حصد جائزة الأوسكار أيضاً فأصبح وهو في السابعة والثلاثين من العمر يحمل في جعبته جائزتين للأوسكار!
(فيلليني) — “فيللينيسك”: كشاب ضاقت عليه ملابسه القديمة وأراد أن يخلعها، شعر (فيلليني) أن حدود “المدرسة الواقعية الجديدة” على أقصى اتساعها لم تعُد ترضي طموحاته وخيالاته الجامحة، فانقلب عليها وكان له الفضل مع العملاق الآخر (أنطونيوني) في الاجهاز على تلك المدرسة السينمائية الرفيعة وللأبد.
لكن ما ميز (فيلليني) أنه اتجه إلى أبعاد جديدة في العقل البشري، في اللاوعي. واعتمد على مدارس بعينها في التحليل النفسي وما إلى ذلك. وتميزت أفلامه بالذاتية الشديدة وبسبر أغوار عالم الأحلام والأساطير والفن والدين أيضاً.
ومن أجمل ما قرأت على الاطلاق في وصف الفن، ما قاله (فيلليني) دفاعاً عن خصوصية أفلامه : ” الفن هو سيرة ذاتية للفنان، إن اللؤلؤة هي السيرة الذاتية للمحارة “.
تلك الفترة الذهبية من تاريخ السينما العالمية في عقد الستينات، قدم فيها مجموعة من الأفلام الفريدة، منها ” La Dolce Vita – 1960 ” و ” 1963 – 2/1 8 ” و ” Giulietta degli spiriti – 1965 ” و ” Satyricon– 1969 “ وأتبعها برائعتيه الخالدتين ” Roma – 1972 ” و ” Amarcord – 1973 ” وبرأيي أن معين ابداع الراحل بدأ في النضوب بعد فيلمه الغريب والمثير” Il Casanova di Federico Fellini – 1976 “. وبدأت المشاهد الكرنفالية المبهرة تصبح سمة مميزة لأفلامة التي تتناول بعداً تاريخيا أو إرثا معين، كما أن سريالية أفلامه جعلت البعض ينظر لها باعتبارها مدرسة فنية قائمة بذاتها وأطلقوا عليها اسم “فيللينيسك” أو “مدرسة فيلليني”.
خفوت الشعلة: في عقد الثمانينات وهي فترة كساد قاتمة للسينما الإيطالية، لم يستطع (فيلليني) تأمين الموارد الكافية لانتاج أفلامه والتي بدا أن الذوق العام بدا يتجاوزها خصوصا مع طغيان التلفاز، فقل انتاجه ومنيت أفلامه بعدم قبول على المستويين النقدي والتجاري. إلا أن أسطورة الفنان الكبير كانت حية بوجوده وكان الأمل يحذو الكثيرين أن تتوهج الشعلة من جديد لكن القدر لم يمهله. وقد حاز على رصيد هائل من التقدير والجوائز لعل أهمها 12 ترشيح للأوسكار، وفازت أربعة من أفلامه ب 4 جوائز أوسكار “أفضل فيلم أجنبي”، وسعفة ذهبية من مهرجان “كان”، وأسدين فضيين من مهرجان “فينيسيا”.
(فيديريكو) و (جولييتا): على غرار (روميو) و (جولييت) التقى (فيلليني) برفيقه عمره الممثلة الإيطالية (جولييتا ماسينا) عام 1942، وتزوجا بعدها بعام ليكونا واحداً من أنجح الزيجات الفنية في تاريخ السينما، فأخرج لها عدة أفلام منها أفلام ” La Strada – 1954 ” و ” Le Notti di Cabiria – 1957 ” و ” Giulietta degli spiriti – 1965 ” و ” Ginger e Fred – 1986 ” .
لكن حياتهما اصطدمت بأحداث أليمة حين فقدت (جولييتا) حملها الأول نتيجة حادث، وحين مات ابنهما الأول (بييرفيديريكو) بعد ولادته بشهر ليحرما بعدها من الأبناء طيلة زواجهما الذي امتد 50 عاماً.
ومن غرائب الأقدار أن يتوفي العملاق (فيديريكو فيلليني) عام 1993 بعد يوم واحد فقط من عيد زواجه الخمسين وبعد أن أمهلته الحياة فرصة تكريمه بجائزة أوسكار شرفية عن مجمل أعماله في نفس العام. ثم تلحق به زوجته (جولييتا ماسينا) بعد 6 أشهر نتيجة اصابتها بسرطان الرئة وليدفنا معاً ومع ابنهما المتوفي في مقبرة واحدة في مسقط رأسه بمدينة “ريميني”.
وفي النهاية أذكر ل (فيلليني) قولاً يصف به فنه فيقول: “أقدم أفلاماً تحكي قصة وأكاذيب وتقدم المتعة”!
عن جلال عامر – صحيفة المصري اليوم
تحميل كتب لفيلليني:

* أنا فيلليني إعداد: ش.شاندلر – ترجمة: عارف حديفة

* حوار مع فدريكو فيلليني أجرى الحوار: جيوفاني جرازيني – ترجمة: أمين صالح | سبق وأن لخصته في تدوينة سابقة بنفس العنوان على هذا الرابط

1 أفكار بشأن “وما أدراك ما (فيلليني)…”

  1. تنبيه Pingback: لا سترادا – أبو روما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

-+=